انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القُرى ونوم العسكر عن صلاة الفجر

ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر إلى وادي القُرى، وكان بها جماعة من اليهود، وقد انضاف إليهم جماعةٌ من العرب، فلما نزلوا استقبلهم يهودُ بالرمي وهم على غير تعبية، فقُتل مِدْعَمٌ عبد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلَّا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تُصِبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا»، فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراك أو شراكين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «شراك من نار» أو «شراكان من نار».
فعبَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه للقتال وصفَّهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، ورايةً إلى الحُباب بن المنذر، ورايةً إلى سهل بن حُنَيف، ورايةً إلى عبَّاد بن بِشر، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابُهم على الله، فبرز رجل منهم فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه عليٌّ فقتله، حتى قُتِل منهم أحد عشر رجلًا، كلما قُتِل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام، وكانت الصلاة تحضر ذلك اليوم فيصلي بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قِيد رمح حتى أَعطَوا بأيديهم وفتحها عنوةً، وغنَّمه الله أموالَهم وأصابوا أثاثًا ومتاعًا كثيرًا.

وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تَيماء ما واطى عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ خيبر وفدك ووادي القرى صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا بأموالهم، فلما كان عمر بن الخطاب أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يُخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويَرَى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، وأن ما وراء ذلك من الشام. وانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعًا إلى المدينة.

فلما كان ببعض الطريق سار ليله حتى إذا كان ببعض الطريق عرَّس وقال لبلال: «اكْلَأ لنا الليل»، فغلبت بلالًا عيناه وهو مستنِد إلى راحلته، فلم يستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولهم استيقاظًا، ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما هذا يا بلال؟» فقال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فاقتادوا رواحلهم شيئًا حتى خرجوا من ذلك الوادي، ثم قال: «هذا وادٍ به شيطان»، فلما جاوزه أمرهم أن ينزلوا وأن يتوضؤوا، ثم صلَّى سنة الفجر، ثم أمر بلالًا فأقام الصلاة، وصلَّى بالناس ثم انصرف وقال: «يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردَّها إلينا في حينٍ غير هذا، فإذا نام أحدكم عن الصلاة أو نسيها فليصلِّها كما كان يصليها في وقتها»، ثم التفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر فقال: «إن الشيطان أتى بلالًا وهو قائم يصلِّي فأضجعه، فلم يزل يُهَدِّيه كما يُهدَّى الصبيُّ حتى نام»، ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالًا فأخبره بمثل ما أخبر به أبا بكر.

وقد روي أن هذه القصة كانت في مرجعهم من الحديبية، وروي أنها كانت مرجعَه من غزوة تبوك، وقد روى قصةَ النوم عن صلاة الصبح عمرانُ بن حُصَين ولم يوقِّت مدَّتها ولا ذكر في أيِّ غزوةٍ كانت، وكذلك رواها أبو قتادة، كلاهما في قصة طويلة محفوظة.

وروى مالك عن زيد بن أسلم أن ذلك كان بطريق مكة، وهذا مرسل.

وقد روى شعبة عن جامع بن شَدَّاد قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي علقمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمنَ الحديبية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يكلؤنا؟» فقال بلال: أنا ــ وذكر القصة ــ.

ولكن قد اضطربت الرواة في هذه القصة، فقال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن جامع: إن الحارس فيها كان ابنَ مسعود، وقال غُنْدَرٌ عنه: إن الحارس كان بلالًا؛ واضطربت الرواية في تاريخها فقال المعتمر بن سليمان عن شعبة عنه: إنها كانت في غزوة تبوك، وقال غيره عنه: إنها كانت في مرجعهم من الحديبية؛ فدل على وهم وقع فيها، وروايةُ الزهري عن سعيد سالمة من ذلك. وبالله التوفيق.

 

‌‌فصل في فقه هذه القصة

فيها: أن من نام عن صلاةٍ أو نسيها فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها.

وفيها: أن السنن الرواتبَ تُقضى كما تقضى الفرائض، وقد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة الفجر معها، وقضى سنة الظهر وحدها، وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - قضاء السنن الرواتب مع الفرائض.

وفيها: أن الفائتة يؤذَّن لها ويقام، فإن في بعض طرق هذه القصة أنه أمر بلالًا فنادى بالصلاة، وفي بعضها: «فأمر بلالًا فأذن وأقام» ذكره أبو داود.

وفيها: قضاء الفائتة جماعةً.

وفيها: قضاؤها على الفور لقوله: «فليُصلِّها إذا ذكرها»، وإنما أخرها عن مكان معرَّسهم قليلًا لكونه مكانًا فيه شيطان فارتحل منه إلى مكان خير منه، وذلك لا يفوِّت المبادرة إلى القضاء، فإنهم في شغل الصلاة وشأنها.

وفيها: تنبيه على اجتناب الصلاة في أمكنة الشيطان، كالحمَّام والحُشِّ بطريق الأولى، فإن هذه منازله التي يأوي إليها ويسكنها، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك المبادرة إلى الصلاة في ذلك الوادي وقال: «إن به شيطانًا» فما الظن بمأوى الشيطان وبيته.


زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (3/ 427 - 431)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله