معرفة فضل أئمة الإسلام والمنهجية في التعامل مع أخطائهم

ولا بدَّ من أمرين:

أحدهما أعظم من الآخر، وهو النصيحة لله ورسوله وكتابه ودينه، وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث الله به رسوله من الهدى والبينات، التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه، وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويل.

والثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبولَ كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحقُّ في خلافها لا يوجب اطِّراحَ أقوالهم جملةً وتنقُّصَهم والوقيعةَ فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصدُ السبيل بينهما، فلا يُؤثَّم ولا يُعصَم، فلا يُسْلَك بهم مسلك الرافضة في علي ولا مسلكهم في الشيخين، بل يُسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثِّمونهم ولا يعصمونهم، ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يَهدُرونها. فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة؟

ولا منافاةَ بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله، ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلّة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدَر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين.

قال عبد الله بن المبارك: كنت بالكوفة فناظروني في النبيذ المختلَف فيه، فقلت لهم: تعالوا فلْيحتجَّ المحتجُّ منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فإن لم يُبيَّن الردّ عليه عن ذلك الرجل بشدةٍ صحَّت عنه، فاحتجوا فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدة، فلما لم يبقَ في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود، وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه، إنما يصح عنه أنه لم يُنتبذ له في الجرِّ الأخضر.

قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق، عُدَّ أنَّ ابن مسعود لو كان هاهنا جالسًا فقال: هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تخشى. فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن، فالنخعي والشعبي ــ وسمَّى عدة معهما ــ كانوا يشربون الحرام، فقلت لهم: دعوا عند المناظرة تسمية الرجال، فربَّ رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن تكون منه زلَّة، أفيجوز لأحدٍ أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خيارًا، قلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدًا بيدٍ؟ قالوا: حرام، فقلت: إن هؤلاء رأوه حلالًا، أفماتوا وهم يأكلون الحرام؟ فبُهِتوا وانقطعت حجتهم.

قال ابن المبارك: ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أُنشِد الشعر، فقال: يا بنيَّ لا تنشد الشعر، فقلت: يا أبَه، كان الحسن يُنشد، وكان ابن سيرين يُنشد، فقال: أي بنيَّ إن أخذتَ بشرِّ ما في الحسن وبشرِّ ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله.

قال شيخ الإسلام: وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء، فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا وله أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة.

قلت: وقد قال أبو عمر بن عبد البر في أول «استذكاره».

قال شيخ الإسلام: وهذا باب واسع لا يُحصى، مع أن ذلك لا يغُضُّ من أقدارهم، ولا يسوغ اتّباعهم فيها، قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. قال مجاهد والحكم بن عُتَيبة ومالك وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.

قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا.

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله:

فروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمالٍ ثلاثة»، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «إني أخاف عليهم من زَلَّة العالم، ومن حكم الجائر، ومن هوى مُتَّبَع».

وقال زياد بن حُدَير: قال عمر: ثلاث يَهدِمْنَ الدين: زلّة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مُضِلّون.

وقال الحسن: قال أبو الدرداء: إن مما أخشى عليكم زلَّة العالم وجدالَ المنافق بالقرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن مَنارٌ كأعلام الطريق.

وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم، قلَّما يُخطِئه أن يقول ذلك: الله حَكَم قِسْطٌ، هلك المرتابون، إن وراءكم فِتنًا يكثر فيها المال، ويُفتح فيها القرآن، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر، فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأتُ القرآن فما أظنُّ أن يتبعوني حتى أبتدعَ لهم غيرَه. فإياكم وما ابُتدِع، فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزَيْغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقَّوا الحقَّ عمن جاء به، فإنّ على الحق نورًا. قالوا: كيف زَيْغة الحكيم؟ قال: هي كلمة تَرُوعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه، فاحذروا زَيغته، ولا تصدَّنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء ويراجع الحقَّ، وإن العلم والإيمان مكانَهما إلى يوم القيامة، فمن ابتغاهما وجدهما.

وقال سلمان الفارسي: كيف أنتم عند ثلاثٍ: زلَّة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تَقْطع أعناقكم؟ فأما زلّة العالم فإن اهتدى فلا تقلِّدوه دينَكم وتقولون نصنع مثل ما يصنع فلان، وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسَكم منه فتُعِينوا عليه الشيطانَ. وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارًا كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوا، وما لم تعرفوا فكِلُوه إلى الله سبحانه. وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم.

وعن ابن عباس: ويلٌ للأتباع من عَثَرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ثم يمضي الأتباع. ذكر أبو عمر هذه الآثار كلها وغيره.

فإن كنا قد حُذِّرنا زلَّة العالم وقيل لنا: إنها من أخوف ما يُخاف علينا، وأُمِرنا مع ذلك أن لا نرجع عنه، فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلَّدها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقَّن صحتها، وإلا توقَّف في قبولها؛ فكثيرًا ما يُحكَى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل يُخرِجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعه مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تُفضِي إلى ذلك لما التزمها.

وأيضًا فلازم المذهب ليس بمذهب، وإن كان لازم النص حقًّا؛ لأن الشارع لا يجوز عليه التناقض، فلازم قوله حق، وأما من عداه فلا يمتنع عليه أن يقول الشيء ويَخفى عليه لازمُه، ولو علم أن هذا لازمه لما قاله؛ فلا يجوز أن يقال: هذا مذهبه، ويقول ما لم يقله، وكلُّ من له علم بالشريعة وقدرها وبفضل الأئمة ومقاديرهم وعلمهم وورعهم ونصيحتهم للدين تيقَّن أنهم لو شاهدوا أمر هذه الحيل وما أفضَتْ إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريمها.

ومما يوضح ذلك أن الذين أفتَوا من العلماء ببعض مسائل الحيل وأخذوا ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لرجعوا عن ذلك يقينًا، فإنهم كانوا في غاية الإنصاف، وكان أحدهم يرجع عن رأيه بدون ذلك، وقد صرَّح بذلك غير واحد منهم وإن كانوا كلهم مجمعين على ذلك. قال الشافعي: إذا صحَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط، وهذا وإن كان لسان الشافعي فإنه لسان الجماعة كلهم، ومن الأصول التي اتفق عليها الأئمة أن أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنتشرة لا تُترك إلا بمثلها.

يوضِّح ذلك أن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسالك الاجتهاد؛ إذ لو كان من مسالك الاجتهاد لم يتكلم الصحابة والتابعون والأئمة في أرباب الحيل بذلك الكلام الغليظ الذي ذكرنا منه اليسير من الكثير. وقد اتفق السلف على أنها بدعة محدثة؛ فلا يجوز تقليد من يفتي بها، ويجب نقضُ حكمه، ولا يجوز الدلالة للمقلِّد على من يفتي بها، وقد نصَّ الإمام أحمد على ذلك كله، ولا خلاف في ذلك بين الأئمة، كما أن المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ، ولا يجوز تقليد بعض المدنيين في مسألة الحشوش وهي إتيانِ النساء في أدبارهن، بل عند فقهاء الحديث أن من شرب النبيذ المختلَف فيه حُدَّ، وهذا فوق الإنكار باللسان، بل عند فقهاء أهل المدينة يُفسَّق، ولا تُقبل شهادته.


إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 223 – 231 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله