فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد سنَّة الفجر على شِقِّه الأيمن. هذا الذي ثبت عنه في «الصحيحين» من حديث عائشة.
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا صلَّى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصُّبح، فليضطجع على جنبه الأيمن». قال الترمذي: حديثٌ صحيحٌ غريبٌ. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدَّس الله روحه ــ يقول: هذا باطلٌ، وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعلُ لا الأمرُ بها، وهذا انفرد به عبد الواحد بن زياد، وغلِط فيه. انتهى.
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي الصدِّيق الناجي أنَّ ابن عمر رأى قومًا اضطجعوا بعد ركعتي الفجر، فأرسل إليهم، فنهاهم. فقالوا: نريد بذلك السنَّة. فقال ابن عمر: ارجع إليهم، فأخبِرهم أنها بدعةٌ.
وقال أبو مِجْلَز: سألتُ ابن عمر عنها، فقال: يتلعَّب بكم الشيطان.
وقال ابن مسعود: ما بالُ الرجل إذا صلَّى الركعتين يتمعَّكُ كما يتمعَّكُ الحمار! إذا [سلَّم فقد] فَصَل.
وأما ابن حزم ومن تابعه فإنَّهم يوجبون هذه الضِّجعة، ويُبطل ابنُ حزم صلاة من لم يضطجعها لهذا الحديث؛ وهذا مما انفرد به عن الأمة. ورأيتُ فيها مجلَّدًا لبعض أصحابه قد نصَر فيه هذا المذهب.
وقد ذكر عبد الرزاق في «المصنف» عن معمَر، عن أيوب، عن ابن سيرين، أن أبا موسى ورافع بن خَديج وأنس بن مالك كانوا يضطجعون عند ركعتي الفجر، ويأمرون بذلك.
وذكر عن معمر، عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر كان لا يفعله، ويقول: كفى بالتسليم.
وذكر عن ابن جريج: أخبرني من أصدِّق أن عائشة كانت تقول: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يضطجع لسنَّة، ولكنه كان يدأَب ليلته فيستريح، قال: وكان ابن عمر يَحْصِبهم إذا رآهم يضطجعون على أيمانهم.
وقد غلا في هذه الضِّجعة طائفتان، وتوسَّطت فيها ثالثة. فأوجبها جماعةٌ من أهل الظاهر، وأبطلوا الصلاة بتركها كابن حزم ومَن وافقه. وكرهها جماعةٌ من الفقهاء، وسمَّوها بدعةً. وتوسَّط فيها مالك وغيره، فلم يروا بها بأسًا لمن فعلها راحةً، وكرهوها لمن فعلها استنانًا. واستحبَّها طائفةٌ على الإطلاق، سواءٌ استراح بها أو لا، واحتجُّوا بحديث أبي هريرة.
والذين كرهوها، منهم من احتجَّ بآثار الصحابة كابن عمر وغيره، حيث كان يحصِبُ مَن يفعلها. ومنهم من أنكر فعلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لها، وقال: الصحيح أن اضطجاعه كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر، كما هو مصرَّحٌ به في حديث ابن عباس.
قال: وأما حديث عائشة فاختُلِف على ابن شهاب فيه، فقال مالك عنه: «فإذا فرغ ــ يعني من قيام الليل ــ اضطجع على شِقِّه الأيمن حتى يأتيه المؤذِّن، فيصلِّي ركعتين خفيفتين». فهذا صريحٌ أنَّ الضِّجعة قبل سنَّة الفجر. وقال غيره عن ابن شهاب: «فإذا سكت المؤذِّن من أذان الفجر، وتبيَّن له الفجر، وجاءه المؤذِّن= قام، فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شِقِّه الأيمن». قالوا: وإذا اختلف أصحاب ابن شهاب، فالقول ما قال مالك، لأنه أثبتهم فيه وأحفظهم.
قال الآخرون: بل الصواب في هذا مع من خالف مالكًا. قال أبو بكر الخطيب: روى مالك عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعةً، يوتر منها بواحدة. فإذا فرغ منها اضطجع على شِقِّه الأيمن حتى يأتيه المؤذِّن، فيصلِّي ركعتين خفيفتين». وخالف مالكًا عقيلٌ ويونس وشعيب وابن أبي ذئب والأوزاعي وغيرهم، فرووا عن الزهري أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يركع الركعتين للفجر، ثم يضطجع على شِقِّه الأيمن حتى يأتيه المؤذِّن، فيخرج معه. فذكر مالك أنَّ اضطجاعه قبل ركعتي الفجر، وفي حديث الجماعة أنه يضطجع بعدهما، فحكَم العلماء أنَّ مالكًا أخطأ وأصاب غيره. انتهى كلامه.
وقال أبو طالب: قلت لأحمد: حدثنا أبو الصَّلْت، عن أبي كُدَينة، عن سهيل [بن أبي صالح عن أبيه] عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اضطجع بعد ركعتي الفجر. قال: شعبة لا يرفعه. قلت: فإن لم يضطجع، عليه شيءٌ؟ قال: لا، عائشة ترويه وابن عمر ينكره. قال الخلال: وأنبأنا المرُّوذي أن أبا عبد الله قال: حديث أبي هريرة ليس بذاك. قلت: إن الأعمش يحدِّث به عن أبي صالح، عن أبي هريرة. قال: عبد الواحد وحده يحدِّث به. وقال إبراهيم بن الحارث: إن أبا عبد الله سئل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قال: ما أفعله. وإن فعله رجلٌ فحسنٌ. انتهى.
فلو كان حديث عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح صحيحًا عنده، لكان أدنى درجاته عنده الاستحباب. وقد يقال: إن عائشة روت هذا وهذا، فكان يفعل هذا تارةً وهذا تارةً، فليس في ذلك اختلاف، فإنه من المباح، والله أعلم.
وفي اضطجاعه على شقِّه الأيمن سرٌّ، وهو أنَّ القلب معلَّقٌ في الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجانب الأيسر استثقل نومًا، لأنه يكون في دعة واستراحة، فيثقل نومه. فإذا نام على الشِّقِّ الأيمن، فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب، وطلب مستقَرِّه من الصدر، وميله إليه. ولهذا تستحبُّ الأطِبَّاءُ النومَ على الجانب الأيسر، لكمال الراحة وطيب المنام. وصاحبُ الشرع يستحِبُّ النوم على الجانب الأيمن، لئلا يثقل في نومه، فينامَ عن قيام الليل. فالنوم على الجانب الأيمن أنفع للقلب، وعلى الأيسر أنفع للبدن. والله أعلم.
زاد المعاد ط عطاءات العلم (1/ 372 - 377)