وذكر في هذه السورة ثمودَ دون غيرهم من الأُمَم المكذِّبة؛ قال شيخنا: "هذا - والله أعلم - من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنَّه لم يكن في الأُمَم المكذِّبة أخفُّ ذنبًا وعذابًا منهم، إذ لم يُذْكَر عنهم من الذنوب ما ذُكِر عن عاد، ومدين، وقوم لوط، وغيرهم.
ولهذا لمَّا ذكرهم وعادًا قال: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * ... وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [فصلت: 15 - 17].
وكذلك إذا ذكرهم مع الأُمَم المكذِّبة لم يذْكُر عنهم ما يذْكُر عن أولئك من التجبُّر والتكبُّرِ، والأعمالِ السيئة، كاللِّوَاط، وبَخْسِ المكيال والميزان, والفسادِ في الأرض، كما في "سورة هود" و"الشعراء" وغيرهما.
فكان في قوم لوط - مع الشرك - إتيان الفواحش التي لم يُسْبَقُوا إليها.
وفي عاد - مع الشرك - التجبُّرُ, والتكبُّرُ، والتوسُّعُ في الدنيا، وشدَّةُ البَطْش، وقولُهم: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).
وفي أصحاب مدين - مع الشرك - الظلمُ في الأموال.
وفي قوم فرعون الفسادُ في الأرض، والعلُوُّ.
وكان عذابُ كلِّ أُمَّةٍ بحسب ذنوبهم وجرائمهم؛ فعذَّبَ عادًا بالرِّيح الشديدة العَاتِيَةِ، التي لا يقوم لها شيءٌ وعذَّبَ قومَ لوط بأنواع من العذاب لم يعذِّب بها أُمَّةً غيرهم؛ فجمع لهم بين الهلاكِ، والرَّجمِ بالحجارة من السماء، وطَمْسِ الأبصار، وقَلْبِ ديارهم عليهم بأنْ جعل عاليها سافلها، والخَسْفِ بهم إلى أسفل سافلين.
وعذبَ قومَ شعيب بالنَّار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان.
وأمَّا ثمود فأَهلكَهم بالصيحة، فماتوا في الحال.
فإذا كان هذا عذابَهُ لهؤلاء، وذنبهم مع الشرك عَقْرُ ناقةٍ واحدةٍ جعلها اللهُ آيةً لهم؛ فمن انتَهَكَ محارمَ اللهِ، واستخفَّ بأوامره ونواهيه، وعَقَر عباده، وسفك دماءهم = كان أشدَّ عذابًا.
ومن اعتبر أحوال العالم قديمَا وحديثًا، وما يُعَاقَبُ به من سَعَى في الأرض بالفساد، وسَفَكَ الدماء بغير حقٍّ، وأقامَ الفتن، واستهانَ بحرمات الله = عَلِم أنَّ النَّجَاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون.
قلتُ: وقد يظهر في تخصيص ثمود بالذِّكر ههنا - دون غيرهم - معنىً آخر، وهو أنَّهم رَدُّوا الهُدَى بعد ما تيقَّنُوه وكانوا مستبصرين به، قد ثَلِجَتْ له صدورُهم، واستيقنَتْهُ أنفسُهم، فاختاروا عليه العمَى والضلالة، كما قال - تعالى - في وَصْفِهم : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [فصلت: 17] وقال تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء: 59] أي: مُوجبَةً لهم التبصُّر واليقين، وإن كان جميع الأمَم المُهْلَكَةِ هذا شأنهم؛ فإنَّ الله لم يُهْلِك أُمَّةً إلا بعد قيام الحُجَّةِ عليها, لكن خُصَّت ثمود من ذلك الهُدَى والبصيرة بمزيد، ولهذا لمَّا قَرَنَهم بـ "عادٍ" قال: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الآية [فصلت: 15] , ثُمَّ قال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [فصلت: 17].
ولهذا أَمْكَنَ عادًا المُكابَرَةُ، وأن يقولوا لنبيِّهم: (مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) [هود: 53] , ولم يمكن ذلك ثمودًا، وقد رأَوا البيِّنَةَ عِيَانًا، وصارت لهم بمنزلة رؤية الشمس والقمر، فرَدُّوا الهُدَى بعد تيقُّنهِ والبصيرةِ التامَّةِ به، فكان في تخصيصهم بالذِّكر تحذيرٌ لكلِّ من عرف الحقَّ ولم يتَّبعْهُ، وهذا داء أكثر الهالكين، وهو أَعَمُّ الأدواء وأغلبُها على أهل الأرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
التبيان في أيمان القرآن (1/ 37 – 39 ط عطاءات العلم)