زكاة القلب موقوفة على طهارته

زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 21]، وذكر ذلك سبحانه عَقِيبَ تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكِّي هو باجتناب ذلك، وكذلك قوله تعالى في الاستئذان على أهل البيوت: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور: 28]؛ فإنهم إذا أُمروا بالرجوع لئلَّا يَطّلعوا على عورة لم يحبَّ صاحب المنزل أن يُطّلَع عليها، كان ذلك أزكى لهم، كما أن ردّ البصر وغضّه أزكى لصاحبه. وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14، 15]، وقال تعالى عن موسى في خطابه لفرعون: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات: 18]، وقال تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [فصلت: 6 - 7].

قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هي التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب؛ فإنه يتضمن نفى إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارة، وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء؛ فإن التزكي وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة، فإنما يحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعًا، فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد والتزكية جَعْلُ الشيء زكيًّا: إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر عنه، كما يقال عدَّلتُه وفسَّقتُه إذا جعلتَه كذلك في الخارج أو في الاعتقاد والخبر.

وعلى هذا فقوله تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم: 32] هو على غير معنى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9]؛ أي: لا تخبروا بزكاتها وتقولوا: نحن زاكون صالحون متقون، ولهذا قال عقيب ذلك: (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32].

وكان اسم زينب بَرّة، فقال: "تُزكِّي نفسها"؛ فسماها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زينب، وقال: "الله أعلم بأهل البر منكم".

وكذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ)؛ أي يعتقدون زكاءها ويخبرون به، كما يزكِّي المزكِّي الشاهدَ، فيقول عن نفسه ما يقول المزكّي فيه، ثم قال تعالى: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) [النساء: 49]؛ أي هو الذي يجعله زاكيًا ويخبر بزكاته. وهذا بخلاف قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)؛ فإنه من باب قوله: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات: 18]؛ أي تعمل بطاعة الله، فتصير زاكيًا، ومثله قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى: 14].


إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 79 – 80 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله