مناظرة ابن القيم مع بعض علماء اليهود

الأمر الثالث - ممَّا تضمَّنَهُ قولُه: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الواقعة: 80]-:

أنَّ ربوبيته الكاملة لخلقه تأبى أن يتركهم سُدَىً: لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يرشدهم إلى ما ينفعهم، ويحذِّرُهم ممَّا يضرُّهم، بل يتركهم هَمَلًا بمنزلة الأنعام السائمة. فمن زعم ذلك فلم يَقْدر ربَّ العالمين حَقَّ قدره، ونَسَبَهُ إلى ما لا يليق به؛ (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون: 116].

ثُمَّ أقام - سبحانه - البرهانَ القاطِعَ على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنَّه لم يتقوَّلْ عليه فيما قاله، وأنَّه لو تقوَّلَ عليه لَمَا أقرَّهُ، ولَعَاجَلَهُ بالإهلاك، فإنَّ كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يُقِرَّ من تقوَّلَ عليه، وافترى عليه، وأضلَّ عبادَهُ، واستباحَ دماءَ من كذَّبَهُ، وحريمَهم وأموالَهم، وأظهرَ في الأرض الفسادَ والجَوْرَ والكذبَ وخلافَ الحقِّ، فكيف يليق بأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأقدر القادرين أن يُقِرَّهُ على ذلك؟

بل كيف يليق به أنْ يؤيِّدَهُ، ويَنْصُرَهُ، ويُعْلِيَهُ، ويُظْهِرَهُ، ويُظْفِرَهُ بأهل الحقِّ: يسفك دماءهم، ويستبيح أموالَهم وأولادَهم ونساءَهم، قائلًا: إنَّ اللهَ أمرني بذلك وأباحَهُ لي؟! بل كيف يليق به أن يُصَدِّقَهُ بأنواع التصديق كلِّها، فَيُصَدِّقَهُ بإقراره، وبالآياتِ المستلزِمة لصدقه التي دلالتها على التصديق كدلالة التصديق بالقول أو أظهر، ثُمَّ يُصَدِّقَهُ بأنواعها كلِّها على اختلافها، فكلُّ آيةٍ على انفرادها مصدِّقةٌ له، ثُمَّ يحصلُ باجتماع تلك الآيات تصديقٌ فوقَ تصديقِ كلِّ آيةٍ بمفردها، ثُمَّ يُعْجِزُ الخَلْقَ عن معارضته، ثُمَّ يصدِّقُه بكلامه وقوله، ثُمَّ يقيمُ الدلالة القاطعة على أنَّ هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله.

فمن أعظم المُحَال، وأبطل الباطل، وأَبْيَنِ البهتان؛ أن يُجَوَّزَ على أحكم الحاكمين وربِّ العالمين أن يفعل ذلك بالكاذب المفتري عليه، الذي هو شرُّ الخلق على الإطلاق، فمن جوَّزَ على الله أن يفعل هذا بِشَرِّ خلقه وأكذبهم على الإطلاق؛ فما آمن بالله قَطُّ، ولا عَرَفَ اللهَ، ولا عَلِمَ أنَّه ربُّ العالمين، ولا تحسن نِسْبَةُ ذلك إلى من له مُسْكَةٌ من عقلٍ، وحكمةٍ، وحِجىً، ومن فعل ذلك فقد أَزْرَى بنفسه، ونادى على جهله.

وأذكر في هذا مناظرةً جَرَتْ لي مع بعض علماء اليهود، قلت له - بعد أن أَفَضْنَا في نبوَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى أن قلت له: إنكارُ نبوَّتِهِ يتضمَّنُ القَدْحَ في ربِّ العالمين، وتنقُّصَهُ بأقبح التنقُّصِ، فكان الكلام معكم في الرسول، والكلام الآن في تنزيه الرَّبِّ تعالى!

فقال: كيف يقول مثلُك هذا الكلام؟ فقلتُ له: بيانُه عليَّ، فاسمع الآن:

أنتم تزعمون أنه لم يكن رسولًا وإنَّما كان مَلِكًا قاهرًا، قَهَر النَّاسَ بسيفه حتَّى دَانُوا له، ومكث ثلاثًا وعشرين سنةً يكذب على الله ويقول: أُوحي إلىَّ ولم يُوحَ إليه شيءٌ، وأمرني ولم يَأْمُرْه بشيءٍ، ونَهَاني ولم يَنْهَهُ، وقال الله كذا ولم يقل ذلك، وأحلَّ كذا، وحرَّمَ كذا، وأوجب كذا، وكره كذا، ولم يُحِلَّ ذلك، ولا حرَّمه، ولا أوجبه، بل هو فعل ذلك من تلقاء نفسه كاذبًا مفتريًا على الله، وعلى أنبيائه، وعلى رسله، وعلى ملائكته، ثُمَّ مكث من ذلك ثلاثَ عشرة سنةً يَسْتَعْرِضُ عبادَهُ: يسفك دماءهم، ويأخذ أموالَهم، ويسترقُّ نساءَهم وأبناءهم، ولا ذنب لهم إلا الردُّ عليه ومخالفَتُهُ، وهو في ذلك كلِّه يقول: الله أمرني بذلك، ولم يأمره، ومع ذلك فهو سَاعٍ في تبديلِ أديان الرُّسُل، ونَسْخِ شرائعهم، وحَلِّ نواميسهم.

فهذه حاله عندكم، فلا يخلو: إمَّا أن يكون الرَّبُّ - تعالى - عالمًا بذلك مطَّلِعًا عليه من حاله، يراه ويشاهده، أم لا.

فإن قلتم: إنَّ ذلك جميعه غائبٌ عن الله لم يعلم به = قَدَحْتُم في الرَّبِّ تعالى، ونسبتموه إلى الجهل المفرِط، إذ لم يطَّلع على هذا الحادث العظيم، ولا عَلِمَهُ ، ولا رآه.

وإن قلتم: بل كان ذلك كلُّه بعلمه واطِّلَاعه ومشاهدته، قيل لكم: فهل كان قادرًا على أن يُغَيِّر ذلك، ويأخُذَ على يده، ويَحُولَ بينه وبينه أم لا؟ فإن قلتم: ليس قادرًا على ذلك؛ نسبتموه إلى العجز المنافي للربوبية، وكان هذا الإنسان هو وأتباعه أقدر منه على تنفيذ إراداتهم.

وإن قلتم: بل كان قادرًا، ولكن مكَّنَهُ، ونَصَرَهُ، وسلَّطَهُ على الخلق، ولم ينصر أولياءه وأتباع رُسُلِه = نسبتموه إلى أعظم السَّفَهِ والظلم، والإخلال بالحكمة؛ هذا لو كان مُخْلِيًا بينه وبين ما فعله، فكيف وهو في ذلك كلِّه ناصِرُهُ ومُؤَيدُهُ، ومجيبُ دعواته، ومهلِكُ مَنْ خالفه وكذَّبه، ومصدِّقُهُ بأنواع التصديق، ومُظْهِرُ الآيات على يديه؛ التي لو اجتمع أهل الأرض كلُّهم على أن يأتوا بواحدةٍ منها لما أمكنهم، ولعجزوا عن ذلك، وكلُّ وقتٍ من الأوقات يُحْدِثُ له من أسباب النصر، والتمكين، والظهور، والعُلُوِّ، وكثرة الأتباع أمرًا خارجًا عن العادة.

فظهر أنَّ من أنكر كونه رسولًا نبيًّا فقد سبَّ اللهَ - تعالى - وقَدَح فيه، ونسبه إلى الجهل، أو العجز، أو السَّفَه .

قلت له: ولا ينتقِضُ هذا بالملوك الظَّلَمة الذين مكَّنهم في الأرض وقتًا ما، ثُمَّ قطَعَ دابرهم، وأبطلَ سُنَّتَهم، ومحا آثارهم وجَوْرَهم، فإنَّ أولئك لم يُبْدُوا شيئًا من ذلك ولم يُعيدوا ، ولا أُيِّدُوا ونُصِرُوا ، ولا ظهرت على أيديهم الآيات، ولا صدَّقَهم الرَّبُّ - تعالى - بإقراره، ولا بفعله، ولا بقوله، بل أَمْرُهُم كان بالضدِّ من أمر الرسول، كـ: فرعونَ، ونَمْرُودَ وأضرابِهما.

ولا ينتقض هذا بمن ادَّعى النُّبوَّة من الكذَّابين؛ فإنَّ حالَهُ كانت ضِدُّ حال الرسول من كلِّ وجهٍ، بل حالهم من أظهر الأدلَّة على صدق الرسول.

ومن حكمة الله - سبحانه - أن أخرج مثل هؤلاء إلى الوجود لِيُعْلَم حالُ الكذَّابين وحالُ الصادقين، وكان ظهورهم من أَبْيَنِ الأدلَّة على صدقِ الرُّسُل، والفرقِ بين هؤلاء وبينهم، "فَبِضِدِّها تَتَبيَّنُ الأشياءُ"، "والضدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضدُّ"، فمعرفة أدلَّةِ الباطل وشُبَهِهِ من أنواع أدلَّة الحقِّ وبراهينه.

فلمَّا سمع ذلك قال: معاذَ الله؛ لا نقول إنَّه مَلِكٌ ظالِمٌ، بل نبيٌّ كريمٌ، من اتَّبعه فهو من السعداء، وكذلك من اتَّبع موسى فهو كمن اتَّبع محمدًا!

قلتُ له: بَطَلَ كلُّ ما تُمَوِّهُون به بعد هذا؛ فإنكم إذا أقررتُم أنَّه نبيٌّ صادِقٌ؛ فلا بدَّ من تصديقه في جميع ما أخبر به، وقد عَلِمَ أتباعُهُ وأعداؤُهُ - بالضرورة - أنَّه دعا النَّاس كلَّهم إلى الإيمان به، وأخبر أنَّ مَنْ لم يؤمن به فهو كافرٌ مخلَّدٌ في النَّار، وقاتَلَ من لم يؤمن به من أهل الكتاب، وأَسْجَلَ عليهم بالكفر، واستباح أموالهم ودماءهم ونساءهم وأبناءهم. فإن كان ذلك عُدْوانًا منه وجَوْرًا لم يكن نبيًّا، وعاد الأمر إلى القَدْحِ في الرَّبِّ تعالى، وإن كان ذلك بأمر الله ووحيه لم تَسَعْ مخالفتُه، وتَرْكُ اتِّباعه، ولَزِمَ تصديقُه فيما أخبر به، وطاعتُه فيما أمر.


التبيان في أيمان القرآن (1/ 268 - 274)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله