فصل
وبصائر النَّاس في هذا النُّور التامِّ تنقسمُ إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: من عَدِم بصيرة الإيمان جملة، فهو لا يرى من هذا الضوء إلا الظُّلمات والرعد والبرق، فهو يجعلُ إصبعيه في أذنيه من الصَّواعق، ويدَه على عينه من البرق؛ خشية أن يُخْطف بصرُه، ولا يجاوزُ نظرُه ما وراء ذلك من الرحمة وأسباب الحياة الأبديَّة.
فهذا القسمُ هو الذي لم يَرْفَع بهذا الدِّين رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي هَدى به عبادَه ولو جاءته كلُّ آية؛ لأنه ممَّن سبقت له الشَّقاوة، وحقَّت عليه الكلمة، ففائدةُ إنذار هذا إقامةُ الحجَّة عليه؛ ليعذَّب بذنبه لا بمجرَّد علم الله فيه.
القسم الثَّاني: أصحابُ البصائر الضعيفة الخُفَّاشيَّة الذين نسبةُ أبصارهم إلى هذا النُّور كنسبة أبصار الخفَّاش إلى جِرْم الشمس، فهم تبعٌ لآبائهم وأسلافهم؛ دينُهم دينُ العادة والمنشأ، وهم الذين قال فيهم أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب: «أو منقادٌ للحقِّ لا بصيرة له في أحنائه».
فهؤلاء إذا كانوا منقادين لأهل البصائر، لا يتخالجهُم شكٌّ ولا ريب؛ فهم على سبيلِ نجاة.
القسم الثَّالث: وهم خلاصةُ الوجود، ولُبابُ بني آدم؛ وهم أصحابُ البصائر النَّافذة، الذين شَهِدت بصائرُهم هذا النُّور المبين فكانوا منه على بصيرةٍ ويقينٍ ومشاهدةٍ لحسنه وكماله، بحيث لو عُرِض على عقولهم ضدُّه لرأوه كالليل البهيم الأسود.
وهذا هو المِحَكُّ والفرقانُ بينهم وبين الذين قبلهم؛ فإنَّ أولئك بحسب داعِيهم ومن يقترنُ بهم، كما قال فيهم عليُّ بن أبي طالب: «أتباعُ كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق».
وهذا علامةُ عدم البصيرة؛ أنك تراه يستحسنُ الشيءَ وضدَّه، ويمدحُ الشيءَ ويذمُّه بعينه إذا جاء في قالبٍ لا يعرفُه، فيعظِّمُ طاعة الرسول ويرى عظيمًا مخالفتَه، ثمَّ هو من أشدِّ النَّاس مخالفةً له، ونفيًا لما أثبته، ومعاداةً للقائمين بسنَّته، وهذا من عدم البصيرة.
فهذا القسمُ الثَّالث إنما عملُهم على البصائر، وبها تفاوُت مراتبهم في درجات الفضل، كما قال بعض السَّلف ــ وقد ذَكَر السَّابقين فقال: «إنما كانوا يعملون على البصائر».
وما أوتي أحدٌ أفضل من بصيرةٍ في دين الله، ولو قصَّر في العمل؛ قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، قال ابنُ عبَّاس: «أولي القوَّة في طاعة الله، والأبصار في المعرفة في أمر الله». وقال قتادةُ ومجاهد: «أُعطُوا قوَّةً في العبادة وبصرًا في الدِّين».
وأعلمُ النَّاس أبصرُهم بالحقِّ إذا اختلف النَّاس، وإن كان مقصِّرًا في العمل.
وتحت كلِّ واحدٍ من هذه الأقسام أنواعٌ لا يحصي مقاديرَها وتفاوتها إلا الله.
إذا عُرِف هذا؛ فالقسمُ الأوَّلُ لا ينتفعُ بهذا الباب، ولا يزدادُ به إلا ضلالة، والقسمُ الثَّاني ينتفعُ به بقدر فهمه واستعداده، والقسمُ الثَّالث وإليهم هذا الحديثُ يُسَاق، وهم أولو الألباب الذين يخصُّهم الله في كتابه بخطاب التنبيه والإرشاد، وهم المرادون على الحقيقة بالتَّذكرة؛ قال الله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 856 - 859)