العمل مع أقدار الله التي تجري على العبد بغير اختياره ولا طاقَة له بدفعها
الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقَة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته.
فهذا حقُّه أَن يتلقّى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة، وأن يكونَ فيه كالميّت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركبُ في لُجّة البحر، وعجَز عن السباحة، وعن سببٍ يدنيه من النجاة؛ فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة. مع أنَّ عليه في هذا الحكم عبودياتٍ أخَر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزّةَ الحاكم سبحانه في حكمه، وعدلَه في قضائه، وحكمتَه في جريانه عليه، وأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنّ الكتابَ الأول سبقَ بذلك قبل برء الخليقة، فقد جفّ القلمُ بما يلقاه كلُّ عبد، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
ويشهد أن القدر ما أصابه إلّا لحكمة اقتضاها اسمُ الحكيم جل جلاله وصفة الحكمة، وأنّ القدر قد أصاب مواقعه وحلّ في المحل الذي ينبغي أن يحلّ فيه، إذ هو مُوجَب الحكمة البالغة والعلم المحيط والعزّة التامّة، لم يخطئ مواقع الحكمة، ولم يتعدَّ منازله التي ينبغي له أن ينزل بها؛ وأنّ ذلك أوجبه عدلُ اللَّه وحكمتُه وعزّتُه وعلمُه وملكُه العادل، فهو موجَب أسمائه الحسنى وصفاته العلى. فله عليه أكملُ حمد وأتمُّه، كما له الحمدُ على جميع أفعاله وأوامره.
وإن كان حظُّ العبد من هذا القدر الذمّ، فحقُّ الربِّ جل جلاله منه الحمد والمدح، لأنّه موجَب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو موجَب نقصِ العبد وجهلِه وظلمِه وتفريطِه.
فاقتسم الربِّ والعبدُ الخُطتين في هذا القدَر، فكان للرب تعالى فيه الحمدُ، والنعمةُ، والفضلُ، والثناء الحسن؛ وللعبد خُطَة الذمّ، واللّوم، والإساءة، واستحقاق العقوبة.
استأثر اللَّهُ بالمحامِد والْـ … ـفَضْلِ، وولَّى الملامةَ الرَّجلا
ويشفيه في هذا المقام أربعُ آيات:
أحدها قوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء/ 79].
والثانية: قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران/ 165].
والثالثة: قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى/ 30].
والرابعة: قوله تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ) [الشورى/ 48].
فمن نزَّل هذه الآيات على هذا الحكم علمًا ومعرفةً، وقام بموجبها إرادةً وعزمًا وتوبةً واستغفارًا، فقد أدَّى عبودية اللَّه في هذا الحكم، وهذا قدر زائد على مجرَّد التسليم والمسالمة. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه.
طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/ 77 - 80)
- المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله