فائدة
قال ابن عَقِيل: الأموالُ التي يأخذها القضاة أربعة أقسام: (رِشوة وهديةٌ وأجرةٌ ورِزْقٌ).
فالرِّشْوَةٌ: حرامٌ، وهي ضربانِ: رشوةٌ ما ليميلَ إلى أحدهما بغير حقٍّ، فهذه حرامٌ عن فعل، حرام على الآخذ والمعطي، وهما آثمان. ورشوة يُعْطاها ليحكمَ بالحقِّ واستيفاءِ حقِّ المُعطي من دَيْن ونحوه، فهي حرامٌ على الحاكم دون المُعطي؛ لأنها للاستنقاذ، فهي كجُعْل الآبِقِ، وأجرة الوكالة في الخصومة.
وأما الهدية: فضربان: هدية كانت قبل الولاية فلا تحرمُ استدامتها، وهديةٌ لم تكنْ إلا بعدَ الولاية، وهي ضربان: مكروهة وهي الهديَّة إليه ممن لا حكومةَ له، وهدية ممن قد اتجهت له حكومة، فهي حرامٌ على الحاكم والمُهْدِي.
وأما الأجرة: فإن كان للحاكم رزقٌ من الإمام من بيت المال، حَرُمَ عليه أخذُ الأجرة قولًا واحدًا؛ لأنه إنما أَجرى له الرِّزق لأجل الاشتغال بالحكم، فلا وجهَ لأخذ الأجرة من جهة الخصوم، وإن كان الحاكم لا رزقَ له؛ فعلى وجهين: أحدهما: الإباحة؛ لأنه عملٌ مباح فهو كما لو حكَّماه؛ ولأنه مع عدم الرزق لا يتعينُ عليه الحكمُ، فلا يمنعُ من أخذ الأجرة، كالوَصِى وأمين الحاكم يأكلان من مال اليتيم بقدْر الحاجةِ.
وأما الرزق مِنْ بيت الحال: فإن كان غنيًّا لا حاجةَ له إليه احْتُمل أن يُكْرَهَ لئلا يُضَيَّقَ على أهل المصالح، ويحتمل أن يباحَ؛ لأنه بذل نفسَه لذلك، فصار كالعامل في الزَّكاة والخَراج.
قلت: أصلُ هذه المسائل عاملُ الزكاة وقيِّمُ اليتيم، فإن الله تعالى أباحَ لعامل الزَّكاة جزءًا منها، فهو يأخذه مع الفقر والغنى، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم منعه من قبول الهدية، وقال: "هَلّا جَلَسَ في بَيْتِ أبيهِ وأُمِّهِ فَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى إليْهِ أمْ لا؟ "، وفي هذا دليلٌ على أن ما أُهَديَ إليه في بيته ولم يكن سببه العمل على الزَّكاة جاز له قبوله، فيدلُّ ذلك على أن الحاكمَ إذا أَهْدَىَ إليه من كان يُهْدي له قبل الحُكم ولم تكنْ ولايَتُهُ سببَ الهدية فله قَبُولُها.
وأما ناظرُ اليتيم؛ فاللهُ تعالى أَمَرَهُ بالاستعفاف مع الغِنَى، وأباح له الأكلَ بالمعروفِ مع الفقر، وهو إما اقتراضٌ أو إباحة على الخلاف فيه، والحاكمُ فرعٌ متردِّدٌ بين أصلينِ: عامل الزكاة، وناظر اليتيم، فمن نظر إلى عموم الحاجة إليه وحصول المصلحة العامَّة به ألحقَهُ بعامل الزكاة، فيأخذُ الرِّزقَ مع الغِنى كما يأخذُه عاملُ الزَّكاة، ومن نظر إلى كونه راعيًا منتصِبًا لمعاملة الرعية بالأَحَظِّ لهم ألحقه بولي اليتيم، إن احتاج أخذَ، وإن استغنى ترك.
وهذا أفقه، وهو مذهب الخليفتين الراشدين، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني أنزلت نفسي مِنْ مال اللهِ منزلةَ وليِّ اليتيمِ إن احتاجَ أكَلَ بالمعروفِ، وإن استغنى تَرَكَ".
والفرقُ بينَه وبين عامل الزكاة: أنَّ عامل الزكاة مستأجرٌ من جهة الإمام لجباية أموال المستحقين لها وجمعها، فما يأخذه يأخذُهُ بعمله، كَمَن يستأجرُهُ الرجل لجباية أمواله، وأما الحاكمُ فإنه منتصبٌ لإلزام الناس بشرائع الرَّبِّ -تعالى- وأحكامه وتبليغها إليهم، فهو مبلغٌ عن الله بفُتياه، ويتميَّزُ عن المفتي بالإلزام بولايته وقدرته. والمبلِّغُ عن الله الملزمُ للأُمَّة بدينه، لا يستحقُّ عليهم شيئًا، فإن كان محتاجًا فله من الفيء ما يَسُدُّ حاجَتَهُ، فهذا لَوْن وعامل الزكاة لَوْن، فالحاكم مفْتٍ في خبره عن حكم الله ورسوله شاهدٌ فيما ثبت عنده، مُلْزم لمن توجَّهَ عليه الحقُّ، فيشترطُ له شروط المفتي والشاهد، ويتميَّزُ بالقُدْرة على التنفيذ فهو في منصب خلافةِ مَنْ قال: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، فهؤلاء هم الحَكَّامُ المقدَّرُ وجودهم في الأذهان، المفقودون في الأعيان، الذين جعلهم الله ظلالًا، يأوي إليها اللَّهْفان، ومناهِلَ يَرِدُها الظمآنُ.
بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (3/ 1079 - 1081)

