التحقيق والتفصيل في مسألة العذر بالجهل

الفرق بين مقلد تمكّن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن المُعرض: مفرّط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضاً:

أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محب له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.

الثاني: معرض لا إرادة له، ولا يحدّث نفسه بغير ما هو عليه.

فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لَدِنْتُ به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني: راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق: فالأَول: كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزاً وجهلاً، والثاني: كمن لم يطلبه، بل مات في شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المُعرض.

فتأمل هذا الموضع، والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذّب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه؛ بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول.

هذا في الجملة والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية مع ظاهر الأمر؛ فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة، وهو مبنى على أربعة أُصول:

أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نبعث رَسُولاً) [الإسراء: 15]، وقال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]، وقال تعالى: (كُلَّمَا أَلْقِى فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزْنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الملك: 8- 9]، وقال تعالى: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 11]، وقال تعالى: (يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) [الأنعام: 130]، وهذا كثير في القرآن، يخبر أنه إنما يعذّب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه، وقال تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف: 76]، والظالم من عرف ما جاءَ به الرسول أو تمكّن من معرفته، وأما من لم يكن عنده من الرسول خبراً أصلاً ولا يمكن من معرفته بوجه وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم؟

الأصل الثاني: أن العذاب يُستحق بسببين:

أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادة العلم بها وبموجبها.

الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها.

فالأول: كفر إعراض، والثاني: كفر عناد.

وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكّن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.

الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أُخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له؛ فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً ولا يتمكّن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما.

الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها سبحانه، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة، وهذا الأصل هو أساس الكلام في هذه الطبقات الذي عليه نبني مع تلقي أحكامها من نصوص الكتاب والسنة لا من أراء الرجال وعقولهم، ولا يدرى عدد الكلام في هذه الطبقات إلا من عرف ما في كتب الناس ووقف على أقوال الطوائف في هذا الباب والنهي إلى غاية مراتبهم ونهاية إقدامهم، والله الموفق للسداد الهادي إلى الرشاد.

وأما من لم يثبت حكمة ولا تعليلا، ورد الأمر إلى محض المشيئة التي ترجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح، فقد أراح نفسه من هذا المقام الضنك واقتحام عقبات هذه المسائل العظيمة، وأدخلها كلها تحت قوله: {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء/ 23] وهو الفعال لما يريد. وصدق الله وهو أصدق القائلين: {لا يسأل عما يفعل} لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها، وأنه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يسأل عنه كما يسال المخلوق. وهو الفعال لما يريد، ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة. فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور ولا خلاف مقتضى حكمته، لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغني الحميد، العليم الحكيم.


طريق الهجرتين وباب السعادتين (2/ 900 - 903 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله