معارضة الوحي بالعقل ميراثٌ عن إبليس

معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مُرَّةٍ؛ فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدَّمه عليه، فإن الله سبحانه لمَّا أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياسٍ عقليٍّ مركبٍ من مقدمتين حمليتين.

إحداهما: قوله: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) فهذه هي الصُّغرى، والكبرى محذوفةٌ، تقديرها: والفاضل لا يسجد للمفضول، وذكر مستند المقدمة الأولى، وهو أيضًا قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال: (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [الأعراف: 11].

والمقدمة الثَّانية: كأنها معلومةٌ، أي: ومن خُلق من نارٍ أفضل ممَّن خُلق من طينٍ، فهما قياسان متداخلان، وهذه يُسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة:

فالقياس الأول هكذا: أنا خيرٌ منه، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه، وهذا من الشكل الأول.

والقياس الثَّاني هكذا: خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ، والمخلوق من النَّار خيرٌ من المخلوق من الطين، فنتيجة هذا القياس العقلي: أنا خير منه. ونتيجة الأول: ولا ينبغي لي أن أسجد له.

وأنت إذا تأمَّلت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثيرٍ من قياساتهم التي عارضوا بها الوحي، وقدَّموها عليه، والكل باطل.

وقد اعتذر أتباع الشيخ له بأعذارٍ:

منها: أنه لمَّا تعارض عنده العقل والنقل قدَّم العقل.

ومنها: أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله: (اِسْجُدُوا) [البقرة: 33] ولا عموم له؛ فإن الضمائر ليست من صيغ العموم.

ومنها: أنه وإن كان اللفظ عامًّا فإنه خصَّه بالقياس المذكور.

ومنها: أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب؛ بل حمله على الاستحباب، لأنه المتيقن، أو على الرجحان دفعًا للاشتراك والمجاز.

ومنها: أنه حمله على التراخي، ولم يحمله على الفور.

ومنها: أنه صان جناب الربِّ أن يُسجد لغيره، ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه.

فبالله تأمَّل هذه التأويلات، وقابل بينها وبين كثيرٍ من التأويلات التي يذكرها كثيرٌ من النَّاس والمعارضات التي يعارض بها النصوص، وفي بني آدم من يصوِّب رأي إبليس وقياسه ويقول: الصواب معه، ولهم في ذلك تصانيف. وكان بشَّار بن بُرد الأعمى الشَّاعر على هذا المذهب. ولهذا يقول في قصيدته الرَّائية:

الْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ سَوْدَاءُ مُقْتِمَةٌ … وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كَانَتِ النَّارُ

ولمَّا علم الشيخ أنه قد أُصيب من معارضة الوحي بالعقل، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضته بالعقول أوحى إلى تلامذته وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يُعارض به الوحي، وأوهم أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية، وقال: إن قدَّمتم الوحي عليها فسدت عقولكم. قال تعالى: (وَإِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام: 122] ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شُبَهٌ عقليةٌ.

وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهْوَ اَلَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ اُلْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزَلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْعَلِيمُ * وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي اِلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهْوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام: 113 - 118].


الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (2/ 633 - 636)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله