طوائف الناس في إثبات القدرة والحكمة لله تعالى

 

العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنَّما يحصل ذلك بالحكمة معهما. واسمه سبحانه "الحكيم" يتضمن حكمته في خلقه وأمره في إرادته الدينية والكونية، وهو حكيم في كلِّ ما خلقه، حكيمٌ في كلِّ ما أمر به.

والنَّاس في هذا المقام أربع طوائف:

الطائفة الأُولى: الجاحدة لقدرته وحكمته، فلا يثبتون له تعالى قدرة ولا حكمة، كما يقوله من ينفي كونه تعالى فاعلًا مختارًا، وأن صدور العالم عنه بالإيجاب الذاتي لا بالقدرة والاختيار. وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها "عناية إلهية". وهم من أشد النَّاس تناقضًا، إذْ لا يُعقَل حكيمٌ لا قدرة له ولا اختيار، وإنَّما يسمون ما في العالم من المصالح والمنافع "عناية إلهية" من غير أن يرجع منها إلى الرب تعالى إرادة ولا حكمة.

وهؤلاءِ كما أنَّهم مكذبون لجميع الرسل والكتب، فهم مخالفون لصريح العقل والفطرة، قد نسبوا الرب تعالى إلى أعظم النقص وجعلوا كل قادر مريد مختار أكمكَ منه، وإن كان من كان. بل سلبُهم القدرةَ والاختيارَ والفعلَ عن رب العالمين شرٌّ من شرك عبَّاد الأصنام به بكثير، وشرٌّ من قول النصارى إنَّه -تعالى عن قولهم- ثالث ثلاثة وإن له صاحبةً وولدًا، فإنَّ هؤلاء أثبتوا له قدرةً وإرادةً وفعلًا اختياريًّا وحكمةً، ووصفوه مع ذلك بما لا يليق به، وأمَّا أولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية، وأثبتوا له أسماءً لا حقائق لها ولا معنى.

والطائفة الثانية: أقرَّت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات، وجحدت حكمته وما له في خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له -سبحانه- التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها، فحافظت على القدر وجحدت الحكمة. وهؤلاء هم النفاة للتعليل والأسباب والقوى والطبائع في المخلوقات، فعندهم لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء. وليس في القرآن عندهم لام تعليل ولا باء تسبيب، وكلُّ لامٍ تُوهِم التعليل فهي عندهم لام العاقبة، وكلُّ باءٍ تُشعِر بالتسبيب فهي عندهم باء المصاحبة.

وهؤلاء سلَّطوا نُفاة القدر عليهم بما نفَوه من الحكمة والتعليل والأسباب، فاستطالوا عليهم بذلك، ووجدوا مقالًا واسعًا بالشناعة، فقالوا، وشنعوا. ولعمر اللَّه إنَّهم لمحقّون في أكثر ما شنّعوا عليهم به، إذ نفيُ الحكمة والتعليل والأسباب له لوازم في غاية الشناعة والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامَّة العقلاءِ.

والطائفة الثالثة: أقرَّت بحكمته، وأثبتت الأسباب والعلل والغايات في أفعاله وأحكامه، وجحدت بكمال قدرته، فنفت قدرتَه على شطر العالم، وهو أشرف ما فيه من أفعال الملائكة والجن والإنس وطاعاتهم. بل عندهم هذه كلها لا تدخل تحت مقدوره تعالى، ولا يوصف بالقدرة عليها، ولا هي داخلة تحت مشيئته ولا ملكه. وليس في مقدوره عندهم أن يجعل المؤمن مؤمنًا والمصلي مصليا والموفق موفقًا، بل هو الَّذي جعل نفسه كذلك. وعندهم أنَّ أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس كانت بغير مشيئته واختياره، تعالى اللَّه عن قولهم.

وهؤلاء سلَّطوا عليهم نفاةَ الحكمة والتعليل والأسباب، فمزقوهم كلَّ ممزَّق، ووجدوا طريقًا مَهْيعًا إلى الشناعة عليهم، وإبداء تناقضهم، فقالوا، وشنَّعوا، ورموهم بكلِّ داهية. إذ نفيُ قدرة الربِّ تعالى على شطر المملكة له لوازم في غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاء، ونفيُ التزامها تناقضٌ بيِّن. فصاروا مذبذين بين التناقض -وهو أحسن حاليهم- وبين التزام تلك العظائم التي تُخرِج عن الإيمان، كما كان نفاة الحكمة والأسباب والغايات كذلك.

فهدى اللَّه الطائفة الرابعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة/ 213]، فآمنوا بالكتاب كلُّه، وأقرّوا بالحق جميعه، ووافقوا كلَّ واحدة من الطائفتين على ما معها من الحقِّ، وخالفوهم فيما قالوه من الباطل. فآمنوا بخلق اللَّه وأمره بقدره وشرعه، وأنَّه سبحانه المحمود على خلقه وأمره، وأنَّ له الحكمة البالغة والنعمة السابغة، وأنَّه على كلِّ شيء قدير. فلا يخرج عن مقدوره شيء من الموجودات أعيانِها وأفعالِها وصفاتِها، كما لا يخرج عن علمه؛ فكل ما تعلَّق به علمُه من العالم تعلَّقت به قدرته ومشيئته.

وآمنوا مع ذلك بأنَّ له الحجة على خلقه، وأنَّه لا حجَّة لأحدٍ عليه بل للَّه الحجة البالغة، وأنَّه لو عذب أهل سماواته وأهلَ أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم عدلًا منه وحكمة، لا بمحض المشيئة المجرَّدة عن السبب والحكمة، كما يقوله الجبرية.

ولا يجعلون القدرَ حجَّةً لأنفسهم ولا لغيرهم، بل يؤمنون به ولا يحتجون به، ويعلمون أن اللَّه سبحانه أنعم عليهم بالطاعات وأنَّها من نعمته عليهم وفضله وإحسانه، وأنَّ المعاصي من نفوسهم الظالمة الجاهلة، وأنَّهم هم جُناتها وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضاءِ والقدر، مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما في العالم من خيرٍ وشرٍّ وطاعة وعصيان وكفر وإيمان؛ وأنَّ مشيئة اللَّه سبحانه محيطةٌ بذلك كإحاطة علمه به، وأنَّهُ لو شاءَ أَلَّا يُعصى لما عُصِيَ، وأنَّه سبحانه أعزّ وأجلّ من أن يعصى قسرًا، والعباد أقل من ذلك وأهون؛ وأنَّه ما شاء اللَّه كان، وكلُّ كائن فهو بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وما لم يكن فلعدم مشيئته، فله الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله القدرة التامة والحكمة البالغة.

فهذه الطائفة هم أهل البصر التام، والأُولى لهم العمى المطلق، والثانية والثالثة عُورٌ، كلُّ طائفة منهما لهم عين عين، ومع هذا فسرى العمى من العين العمياء إلى العين الصحيحة فأعماها أو كاد. ولا يستنكِر تكرارَ هذه الكلمات من يعلم شدَّة الحاجة إليها وضرورة النفوس إليها، فلو تكررت ما تكررت فالحاجة إليها في محل الضرورة، واللَّه المستعان.


طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (1/ 234 - 239)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله