إيضاح لكلام الإمام ابن القيم من حادي الأرواح

*ناصر محمد أبو سعدة

صدر كتاب جديد لبعض من يتبنَّون أن الأعمال من كمال الإيمان، وأن الإيمان يجزئ بدون عمل الجوارح، واستدل في كتابه باستدلالات كثيرة معظمها مبتور، وبعضها صحيح ولكن ليس له دلالة على ما يريد، وبعضها ليس له عَلاقة بهذه القضية، ولكن في باب آخر.

 

وهذه الاستدلالات غير الصحيحة تم الرد عليها وتوضيحها كثيرًا، ولا أريد أن أتطرَّق إليها هنا، فالأمر واضح جليٌّ، ويسيرٌ على مَن يسَّره له الله، فقد نُقل عن كثير جدًّا من السلف قولهم: "لا ينفع قول إلا بعمل"، منهم علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وقال الإمام الشافعي: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر".

 

وعمل الجوارح لازم لعمل القلب، قال شيخ الإسلام (٧/ ٥٥٤ - ٥٥٦): "لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن".

 

ولكن أكثر ما لفت نظري هو الاستدلال بنقل من كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" للإمام ابن القيم رحمه الله، ولأن هذا النقل يوافق هواه استدل به، ولو تأمله بُرْهة واحدة، لما نَقَله؛ لأنه يخالف مخالفة صريحة في جزء منه ما يعتقده هو، ولقد وجدت هذا النقل في أماكن أخرى مُشكِلاً عند بعضهم، فيؤوله تأويلاً خطأ، وبعضهم يطعن به على الإمام ابن القيم رحمه الله.

 

وهذا النقل تعليقًا على حديث الشفاعة:

(.... فيقبض الله قبضة من نار، فيُخرِج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط، فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير،ومع هذا فأخرجتهم الرحمة، ومن هذا رحمته سبحانه وتعالى للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ويذروه في البَر والبحر، زعمًا منه بأنه يفوت الله سبحانه وتعالى، فهذا قد شك في المعاد والقدرة، ولم يعمل خيرًا قط، ومع هذا فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك وأنت تعلم، فما تلافاه أن رحمه الله، فلله سبحانه وتعالى في خلقه حكم لا تبلغه عقول البشر"؛ حادي الأرواح (ص: ٣٨١).

 

ففهم من يستدل بهذا النص أن ابن القيم يقول بخروج من لم يعمل خيرًا قط من النار ودخوله الجنة، وضرب لذلك مثلاً بالرجل الذي ذر جسده ... ولم ينتبه لخطورة هذا النقل، حيث إنه يقول: إن السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، ومع هذا فأخرجتهم الرحمة ... فهل صحيح أن ابن القيم رحمه الله يقول بذلك، ويعتقد ذلك؟

 

والسؤال هو: هل تعتقد أنت أن هذا النقل صحيح؟ هل يخرج من النار من ليس في قلبه مثقال ذرة من خير؟ وهل يعد أهل السنة من ليس في قلبه مثقال ذرة من خير مسلمًا؟ وهل تعد أنت ذلك مسلمًا؟

بالتأكيد الإجابة: لا؛ لأنه كيف يخرج من النار ويدخل الجنة من ليس في قلبه مثقال ذرة من خير؟!

 

وأن تقول ذلك، لا بد من عمل القلب، وأين عمل القلب؟

 

السؤال الأهم هو: لماذا إذًا تحتج بهذا النقل بدلاً من أن تنقده؛ لأنه يخالف ما تعتقده؟! أهو لعدم فهم النص، أم لوجود كلمة "لم يعملوا خيرًا قط" مع تأييدها مطلقًا، أم ماذا؟!

ولوضع هذا النص في سياقه الطبيعي كي يُفهم بشكل صحيح، نرجع صفحات قليلة نجد النص التالي الواضح الجلي: "السنة المستفيضة أخبرت بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان دون الكفار، وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان"؛ حادي الأرواح (ص: ٣٨١).

 

وهو واضح لا يحتاج لمزيد بيان، فالثابت والمستفيض في السنة أن من يخرج من عصاة الموحدين من كان في قلبه ذرة من إيمان، وهذا خاص بأهل الإيمان، ولو خرج من النار من ليس في قلبه ذرة من إيمان، لتساوى الكافر مع المؤمن، ولم يكن هناك اختصاص لأهل الإيمان، وهو أمر لم يقل به أحد من أهل السنة.

 

ومعنى خير هنا هو الإيمان، كما ذكر ابن القيم نفسه ذلك في حاشية ابن القيم على سنن أبي داود، فقال: "وكل هذه الألفاظ التي ذكرناها في الصحيحين أو أحدهما والمراد بالخير في حديث أنس الإيمان، فإنه هو الذي يخرج به من النار، وكل هذه النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل في أن نفس الإيمان القائم بالقلب يقبل الزيادة والنقصان، وبعضهم أرجح من بعض) (١٢/ ٢٩٢).

 

إذًا كيف نوفق بين القولين؟ فنقول - والله المستعان -: قوله الصحيح والصواب وعليه أهل السنة والجماعة هو: "السنة المستفيضة أخبرت بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان دون الكفار، وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان"؛ حادي الأرواح صفحة (ص: ٣٨١).

 

أما القول الأول بخروج من ليس في قلبه ذرة من إيمان، فليس قوله يرحمه الله ولا اعتقاده، إنما هو حكاية لأقوال، لو راجعت الباب كله لاكتشفت ذلك، وتجده كثيرًا ما يقول: قالوا ... قالو ... قالوا ... قالوا ... فهي حكاية أقوال قيلت أو من الممكن أن تقال في هذا الباب، ويؤكد ذلك ويقويه ويوضحه ما قاله يرحمه الله في كثير من كتبه، فقال في كتاب الصلاة: "على أنَّا نقول: لا يُصِرُّ على ترك الصلاة إصرارًا مستمرًّا مَن يُصدِّق بأن الله أمر بها أصلاً، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقًا تصديقًا جازمًا أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مُصِرٌّ على تركها، هذا من المستحيل قطعًا، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدًا؛ فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها، فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تُصغِ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها، وتأمَّل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق وإن لم يقارنه فعلُ واجبٍ ولا تركُ محرَّمٍ، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية"؛ الصلاة وحكم تاركها (ص: ٢٥).

 

فتأمل قوله رحمه الله: "فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها، فليس في قلبه شيء من الإيمان".

 

وتأمل قوله رحمه الله: "وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية".

 

وقال - أيضًا -: "فالتصديق إنما يتم بأمرين؛ أحدهما: اعتقاد الصدق، والثاني: محبة القلب وانقياده؛ ولهذا قال تعالى لإبراهيم: ﴿ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾ [الصافات: ١٠٤ - ١٠٥]، وإبراهيم كان معتقدًا لصدق رؤياه من حين رآها، فإن رؤيا الأنبياء وحي، وإنما جعله مصدقًا لها بعد أن فعل ما أُمر به، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((والفَرْج يصدق ذلك كله أو يكذبه))، فجعل التصديق عمل الفرج لا ما يتمنى القلب، والتكذيب تركه لذلك، وهذا صريح في أن التصديق لا يصح إلا بالفعل، وقال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، وقد روي هذا مرفوعًا؛ (الكامل لابن عدي)، والمقصود أنه يمتنع مع التصديق الجازم بوجوب الصلاة، والوعد على فعلها، والوعيد على تركها، وبالله التوفيق"؛ الصلاة وحكم تاركها (ص: ٢٦).

 

وقال رحمه الله: "فإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغيرُ مستنكَر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزومًا لعدم محبة القلب وانقياده، الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم - كما تقدم تقريره - فإنه يلزمه من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد، أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان، فإن الإيمان ليس مجرد التصديق - كما تقدم بيانه - وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سُمِّيَ الأول هدًى، فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقًا، فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته".

 

تأمل قوله: "وهذا صريح في أن التصديق لا يصح إلا بالفعل".

وتأمل قوله: "فإن الإيمان ليس مجرد التصديق - كما تقدم بيانه - وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد".

 

وقال رحمه الله: "الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطنَ له، وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذريَّة، ولا يجزئ باطن لا ظاهرَ له إلا إذا تعذَّر بعجز أو إكراه أو خوف هلاك، فتخلُّف العمل ظاهرًا مع عدم المانع دليلٌ على فساد الباطن وخلوِّه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته، فالإيمان قلب الإسلام ولُبُّه، واليقين قلب الإيمان ولُبُّه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمانَ واليقينَ قوةً فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول"؛ الفوائد (ص: ٥٥).

 

وقال رحمه الله: "فكل إسلام ظاهر لا ينفُذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة، فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن، وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة، لا تنفع ولو كانت ما كانت، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبَّد بالأمر وظاهر الشرع، لم يُنجه ذلك من النار".

 

تأمل قوله: "فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإن حقن به الدماء، وعصم به المال والذريَّة، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له".

 

وقوله: "وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول".

 

وقوله: "وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة، لا تنفع ولو كانت ما كانت، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبَّد بالأمر وظاهر الشرع، لم يُنجه ذلك من النار".


المصدر: موقع الألوكة

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله