هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكُنى

ثبت عنه أنه قال: «إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله».

وثبت عنه أنه قال: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة».

وثبت عنه أنه قال: «لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح؛ فإنك تقول: أثم هو؟ فلا يكون، فيقول: لا».

وثبت عنه أنه غير اسم عاصية، وقال: «أنت جميلة».

وكان اسم جويرية برة، فغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باسم جويرية.

وقالت زينب بنت أم سلمة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمى بهذا الاسم، وقال: «لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم».

وغير اسم أصرم بزرعة، وغير اسم أبي الحكم بأبي شريح، وغير اسم حزن جد سعيد، وجعله سهلا، فأبى وقال: السهل يوطأ ويمتهن.

قال أبو داود: وغير النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب، وشهاب فسماه هشاما، وسمى حربا سلما، وسمى المضطجع المنبعث، وأرضا تسمى عفرة سماها خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى، وبنو الزنية سماهم بني الرشدة، وسمى بني مغوية بني رشدة.

فصل في فقه هذا الباب

لما كانت الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها، اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب، وأن لا تكون معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقع يشهد بخلافه، بل للأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثر عن أسمائها في الحسن والقبح، والخفة والثقل، واللطافة والكثافة، كما قيل:

وقل أن أبصرت عيناك ذا لقب … إلا ومعناه إن فكرت في لقبه

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحب الاسم الحسن، وأمر إذا أبردوا إليه بريدا أن يكون حسن الاسم حسن الوجه.

وكان يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة، كما رأى أنه وأصحابه في دار عقبة بن رافع، فأتوا برطب من رطب ابن طاب، فأوله بأن العاقبة لهم في الدنيا، والرفعة في الآخرة، وأن الدين الذي اختاره الله لهم قد أرطب وطاب.

وتأول سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجيء سهيل بن عمرو إليه.

وندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجل يحلبها، فقال: «ما اسمك؟»، قال: مرة، فقال: «اجلس»، فقام آخر، فقال: «ما اسمك؟»، قال ــ أظنه ــ: حرب، فقال: «اجلس»، فقام آخر، فقال: «ما اسمك؟»، فقال: يعيش، فقال: «احلبها».

وكان يكره الأمكنة المنكرة الأسماء ويكره العبور فيها، كما مر في بعض غزواته بين جبلين، فسأل عن اسميهما، فقالوا: فاضح ومخرئ، فعدل عنهما، ولم يجز بينهما.

ولما كان بين الأسماء والمسميات من الارتباط والتناسب والقرابة ما بين قوالب الأشياء وحقائقها، وما بين الأرواح والأجسام، عبر العقل من كل منهما إلى الآخر، كما كان إياس بن معاوية وغيره يرى الشخص، فيقول: ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت، فلا يكاد يخطئ. وضد هذا العبور من الاسم إلى مسماه كما سأل عمر بن الخطاب رجلا عن اسمه، فقال: جمرة، فقال: واسم أبيك؟ قال: شهاب، قال: فمنزلك؟ قال: بحرة النار، قال: فأين مسكنك؟ قال: بذات لظى، قال: اذهب فقد احترق مسكنك، فذهب فوجد الأمر كذلك. فعبر عمر - رضي الله عنه - من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها، كما عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اسم سهيل إلى سهولة أمرهم يوم الحديبية، فكان الأمر كذلك.

وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بتحسين أسمائهم، وأخبر أنهم يدعون يوم القيامة بها. وفي هذا ــ والله أعلم ــ تنبيه على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء؛ لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسن والوصف المناسب له.

وتأمل كيف اشتق للنبي - صلى الله عليه وسلم - من وصفه اسمان مطابقان لمعناه، وهما أحمد ومحمد، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمد، ولشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الاسم بالمسمى ارتباط الروح بالجسد. وكذلك تكنيته - صلى الله عليه وسلم - لأبي الحكم بن هشام بأبي جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحق الخلق بهذه الكنية. وكذلك تكنية الله لعبد العزى بأبي لهب؛ لما كان مصيره إلى نار ذات لهب كانت هذه الكنية أليق به وأوفق، وهو بها أحق وأخلق.

ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ــ واسمها يثرب، لا تعرف بغير هذا الاسم ــ غيره بطيبة؛ لما زال عنها ما في لفظ «يثرب» من التثريب بما في معنى «طيبة» من الطيب، استحقت هذا الاسم، وازدادت به طيبا آخر، فأثر طيبها في استحقاق الاسم، وزادها طيبا إلى طيبها.

ولما كان الاسم الحسن يقتضي مسماه ويستدعيه من قرب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده: «يا بني عبد الله، إن الله قد حسن اسمكم واسم أبيكم». فانظر كيف دعاهم إلى عبودية الله بحسن اسم أبيهم وبما فيه من المعنى المقتضي للدعوة. وتأمل أسماء الستة المتبارزين يوم بدر كيف اقتضى القدر مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ، فكان الكفار شيبة وعتبة والوليد، ثلاثة أسماء من الضعف، فالوليد له بداية الضعف، وشيبة له نهايته، كما قال تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة} [الروم: 54]، وعتبة من العتب، فدلت أسماؤهم على عتب يحل بهم وضعف ينالهم. وكان أقرانهم من المسلمين علي وعبيدة والحارث، ثلاثة أسماء تناسب أوصافهم، وهي العلو والعبودية والسعي الذي هو الحرث، فعلوا عليهم بعبوديتهم وسعيهم في حرث الآخرة.

ولما كان الاسم مقتضيا لمسماه ومؤثرا فيه، كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه، كعبد الله وعبد الرحمن، وكان إضافة العبودية إلى اسم الله واسم الرحمن أحب إليه من إضافتها إلى غيرهما من الأسماء، كالقاهر والقادر، فعبد الرحمن أحب إليه من عبد القادر، وعبد الله أحب إليه من عبد ربه؛ وهذا لأن التعلق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبودية المحضة، والتعلق الذي بين الله وبين العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجوده وكمال وجوده، والغاية التي أوجده لأجلها أن يتألهه وحده، محبة وخوفا ورجاء وإجلالا وتعظيما، فيكون عبدا لله، وقد عبده بما في اسم الله من معنى الإلهية التي يستحيل أن تكون لغيره. ولما غلبت رحمته غضبه، وكانت الرحمة أحب إليه من الغضب، كان عبد الرحمن أحب إليه من عبد القاهر.

فصل

ولما كان كل عبد متحركا بالإرادة، والهم مبدأ الإرادة، وترتب على إرادته حرثه وكسبه= كان أصدق الأسماء اسم «همام» واسم «حارث»؛ إذ لا ينفك مسماهما عن حقيقة معناهما. ولما كان الملك الحق لله وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه= كان أخنع اسم وأوضعه عند الله وأغضبه له اسم «شاهان شاه» أي: ملك الملوك وسلطان السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير الله، فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يحب الباطل.

وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا «قاضي القضاة»، وقال: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين، الذي إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن فيكون. ويلي هذا الاسم في الكراهة والقبح والكذب سيد الناس، وسيد الكل، وليس ذلك إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، كما قال: «أنا سيد ولد آدم»، فلا يجوز لأحد قط أن يقول عن غيره: إنه سيد الناس، كما لا يجوز أن يقول: إنه سيد ولد آدم.

فصل

ولما كان مسمى الحرب والمرارة أكره شيء للنفوس وأقبحها عندها، كان أقبح الأسماء حربا ومرة، وعلى قياس هذا حنظلة وحزن وما أشبههما، وما أجدر هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها، كما أثر اسم حزن الحزونة في سعيد وأهل بيته.

فصل

ولما كان الأنبياء سادات بني آدم، وأخلاقهم أشرف الأخلاق، وأعمالهم أصلح الأعمال= كانت أسماؤهم أشرف الأسماء، فندب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى التسمي بأسمائهم، كما في «سنن أبي داود والنسائي» عنه: «تسموا بأسماء الأنبياء». ولو لم يكن في ذلك من المصالح إلا أن الاسم يذكر بمسماه ويقتضي التعلق بمعناه لكفى به مصلحة، مع ما في ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذكرها، وأن لا تنسى، وأن تذكر أسماؤهم بأوصافهم وأحوالهم.

فصل

وأما النهي عن تسمية الغلام بـ: يسار وأفلح ونجيح ورباح، فهذا لمعنى آخر قد أشار إليه في الحديث، وهو قوله: «فإنك تقول: أثم هو؟ فيقال: لا». والله أعلم هل هذه الزيادة من تمام الحديث المرفوع أو مدرجة من قول الصحابي؟ وبكل حال فإن هذه الأسماء لما كانت قد توجب تطيرا تكرهه النفوس، ويصدها عما هي بصدده، كما إذا قلت لرجل: أعندك يسار أو رباح أو أفلح؟ قال: لا، تطيرت أنت وهو من ذلك. وقد تقع الطيرة ولا سيما على المتطيرين، فقل من تطير إلا وقعت به طيرته، وأصابه طائره، كما قيل:

تعلم أنه لا طير إلا … على متطير فهو الثبور

فاقتضت حكمة الشارع الرؤوف بأمته الرحيم بهم أن يمنعهم من أسباب توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تحصل المقصود من غير مفسدة. هذا إلى ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه: بأن يسمى يسارا من هو من أعسر الناس، ونجيحا من لا نجاح عنده، ورباحا من هو من الخاسرين، فيكون قد وقع في الكذب عليه وعلى الله. وأمر آخر أيضا، وهو أن يطالب المسمى بمقتضى اسمه فلا يوجد عنده فيجعل ذلك سببا لذمه وسبه كما قيل:

سموك من جهلهم سديدا … والله ما فيك من سداد

أنت الذي كونه فسادا … في عالم الكون والفساد

فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمى به. ولي من أبيات:

وسميته صالحا فاغتدى … بضد اسمه في الورى سائرا

وظن بأن اسمه ساتر … لأوصافه فغدا شاهرا

وهذا كما أن من المدح ما يكون ذما وموجبا لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يمدح بما ليس فيه، فتطالبه النفوس بما مدح به وتظنه عنده فلا تجده كذلك، فينقلب ذما، ولو ترك بغير مدحة لم تحصل له هذه المفسدة. ويشبه حاله حال من ولي ولاية سنية، ثم عزل عنها، فإنه ينقص مرتبته عما كانت قبل الولاية، وينقص في نفوس الناس عما كان عليه قبلها، وفي هذا قال القائل:

إذا ما وصفت امرأ لامرئ … فلا تغل في وصفه واقصد

فإنك إن تغل تغل الظنو … ن فيه إلى الأمد الأبعد

فينقص من حيث عظمته … لفضل المغيب على المشهد

وأمر آخر أيضا، وهو ظن المسمى واعتقاده في نفسه أنه كذلك، فيقع في تزكية نفسه وتعظيمها وترفعها على غيره، وهذا هو المعنى الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجله أن تسمى برة، وقال: «لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم». وعلى هذا فتكره التسمية بـ: التقي، والمتقي، والمطيع، والطائع، والراضي، والمحسن، والمخلص، والمنيب، والرشيد، والسديد. وأما تسمية الكفار بذلك فلا يجوز التمكين منه، ولا دعاؤهم بشيء من هذه الأسماء، ولا الإخبار عنهم بها، والله عز وجل يغضب من تسميتهم بذلك.

فصل

وأما الكنية فهي نوع تكريم للمكني وتنويه به، كما قال:

أكنيه حين أناديه لأكرمه … ولا ألقبه والسوءة اللقبا

وكنى النبي - صلى الله عليه وسلم - صهيبا بأبي يحيى، وكنى عليا بأبي تراب إلى كنيته بأبي الحسن، وكانت أحب كنيته إليه، وكنى أخا أنس بن مالك وكان صغيرا دون البلوغ بأبي عمير.

وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - تكنية من له ولد ومن لا ولد له، ولم يثبت عنه أنه نهى عن كنية إلا الكنية بأبي القاسم، فصح عنه أنه قال: «تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي»، فاختلف الناس في ذلك على أربعة أقوال:

أحدها: أنه لا يجوز التكني بكنيته مطلقا، سواء أفردها عن اسمه أو قرنها به، وسواء محياه وبعد وفاته، وعمدتهم عموم هذا الحديث الصحيح وإطلاقه. حكى البيهقي ذلك عن الشافعي. قالوا: ولأن النهي إنما كان لأن معنى هذه الكنية والتسمية مختصة به - صلى الله عليه وسلم -، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت». قالوا: ومعلوم أن هذه الصفة ليست على الكمال لغيره.

واختلف هؤلاء في جواز تسمية المولود بقاسم، فأجازه طائفة ومنعه آخرون، والمجيزون نظروا إلى أن العلة عدم مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما اختص به من الكنية، وهذا غير موجود في الاسم، والمانعون نظروا إلى أن المعنى الذي نهى عنه في الكنية مثله في الاسم سواء، أو هو أولى بالمنع. قالوا: وفي قوله: «وإنما أنا قاسم» إشعار بهذا الاختصاص.

القول الثاني: أن النهي عن الجمع بين اسمه وكنيته، فإذا أفرد أحدهما عن الآخر فلا بأس. قال أبو داود: باب من رأى أن لا يجمع بينهما، ثم ذكر حديث أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تسمى باسمي فلا يتكنى بكنيتي، ومن اكتنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي». ورواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

وقد رواه الترمذي أيضا من حديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة، وقال: حسن صحيح، ولفظه: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع أحد بين اسمه وكنيته، ويسمي محمدا أبا القاسم». قال أصحاب هذا القول: فهذا مقيد مفسر لما في «الصحيحين» من نهيه عن التكني بكنيته، قالوا: ولأن في الجمع بينهما مشاركة في الاختصاص بالاسم والكنية، فإذا أفرد أحدهما عن الآخر زال الاختصاص.

القول الثالث: جواز الجمع بينهما، وهو المنقول عن مالك. واحتج أصحاب هذا القول بما رواه أبو داود والترمذي من حديث محمد بن الحنفية عن علي قال: قلت: يا رسول الله، إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: «نعم». قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وفي «سنن أبي داود» عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني قد ولدت غلاما فسميته محمدا وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك، فقال: «ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي؟» أو «ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي؟» قال هؤلاء: وأحاديث المنع منسوخة بهذين الحديثين.

القول الرابع: إن التكني بأبي القاسم كان ممنوعا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو جائز بعد وفاته. قالوا: وسبب النهي إنما كان مختصا بحياته، فإنه قد ثبت في «الصحيح» من حديث أنس قال: نادى رجل بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله، إني لم أعنك، إنما دعوت فلانا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي». قالوا: وحديث علي فيه إشارة إلى ذلك بقوله: «إن ولد لي من بعدك ولد»، ولم يسأله عمن يولد له في حياته، ولكن قد قال علي في هذا الحديث: «وكانت رخصة لي».

وقد شذ من لا يؤبه لقوله، فمنع التسمية باسمه - صلى الله عليه وسلم - قياسا على النهي عن التكني بكنيته، والصواب أن التسمي باسمه جائز، والتكني بكنيته ممنوع منه، والمنع في حياته أشد، والجمع بينهما ممنوع منه، وحديث عائشة غريب لا يعارض بمثله الحديث الصحيح، وحديث علي في صحته نظر، والترمذي فيه نوع تساهل في التصحيح، وقد قال علي: إنها رخصة له، وهذا يدل على بقاء المنع لمن سواه، والله أعلم.

فصل

وقد كره قوم من السلف والخلف الكنية بأبي عيسى، وأجازها آخرون، فروى أبو داود عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب ضرب ابنا له تكنى أبا عيسى، وأن المغيرة بن شعبة تكنى بأبي عيسى، فقال له عمر: أما يكفيك أن تكنى بأبي عبد الله؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كناني، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنا في جلجبيتنا، فلم يزل يكنى بأبي عبد الله حتى هلك.

وقد كنى عائشة بأم عبد الله. وكان لنسائه أيضا كنى كأم حبيبة وأم سلمة.

فصل

ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تسمية العنب كرما، وقال: «الكرم قلب المؤمن». وهذا لأن هذه اللفظة تدل على كثرة الخير والمنافع في المسمى بها، وقلب المؤمن هو المستحق لذلك دون شجرة العنب، ولكن: هل المراد النهي عن تخصيص شجر العنب بهذا الاسم، وأن قلب المؤمن أولى به منه، فلا يمنع من تسميته بالكرم، كما قال في المسكين والرقوب والمفلس، أو المراد أن تسميته بهذا مع اتخاذ الخمر المحرم منه وصف بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشراب الخبيث المحرم، وذلك ذريعة إلى مدح ما حرم الله وتهييج النفوس عليه؟ هذا محتمل، والله أعلم بمراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والأولى أن لا يسمى شجر العنب كرما.

فصل

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا وإنها العشاء، وإنهم يسمونها العتمة»، وصح عنه أنه قال: «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا»، فقيل: هذا ناسخ للمنع، وقيل بالعكس، والصواب خلاف القولين، فإن العلم بالتاريخ متعذر، ولا تعارض بين الحديثين، فإنه لم ينه عن إطلاق اسم العتمة بالكلية، وإنما نهى عن أن يهجر اسم العشاء، وهو الاسم الذي سماها الله به في كتابه، ويغلب عليه اسم العتمة، فإذا سميت العشاء وأطلق عليها أحيانا العتمة فلا بأس، والله أعلم.

وهذا محافظة منه - صلى الله عليه وسلم - على الأسماء التي سمى الله بها العبادات، فلا تهجر ويؤثر عليها غيرها، كما فعله المتأخرون في هجران ألفاظ النصوص، وإيثار المصطلحات الحادثة عليها، ونشأ بسبب هذا من الفساد ما الله به عليم. وهذا كما كان يحافظ على تقديم ما قدمه الله، وتأخير ما أخره، كما بدأ بالصفا وقال: «أبدأ بما بدأ الله به»، وبدأ في العيد بالصلاة ثم نحر بعدها، وأخبر أن من ذبح قبلها فلا نسك له، تقديما لما بدأ الله به من قوله: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]، وبدأ في أعضاء الوضوء بالوجه ثم اليدين ثم الرأس ثم الرجلين، تقديما لما قدمه الله، وتأخيرا لما أخره، وتوسيطا لما وسطه، وقدم زكاة الفطر على صلاة العيد تقديما لما قدمه الله في قوله: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه} [الأعلى: 14]، ونظائره كثيرة.


زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (2/ 399 - 418)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله