لا يُحصّل العبد أشرف مقاماته إلا بالعلم

قولُه تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

قال الحسن: «هو المؤمنُ؛ أجاب اللهَ في دعوته، ودعا الناسَ إلى ما أجابَ اللهَ فيه من دعوته، وعملَ صالحًا في إجابته؛ فهذا حبيبُ الله، هذا وليُّ الله».

فمقامُ الدعوة إلى الله أفضلُ مقامات العبد، قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19].

وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، جَعَل سبحانه مراتبَ الدعوة بحسب مراتب الخلق:

* فالمستجيبُ القابلُ الزَّكِيُّ الذي لا يعاندُ الحقَّ ولا يأباه، يُدْعى بطريق الحكمة.

* والقابلُ الذي عنده نوعُ غفلةٍ وتأخُّر، يُدْعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمرُ والنهيُ المقرونُ بالرغبة والرهبة.

* والمعاندُ الجاحدُ، يجادَلُ بالتي هي أحسن.

هذا هو الصحيحُ في معنى هذه الآية، لا ما يزعمُ أسيرُ منطق اليونان أنَّ الحكمةَ قياسُ البرهان وهو دعوةُ الخواصِّ، والموعظةَ الحسنةَ قياسُ الخطابة وهو دعوةُ العوامِّ، والمجادلةَ بالتي هي أحسنُ القياسُ الجَدَلي وهو ردُّ شَغَب المشاغِب بقياسٍ جدليٍّ مسلَّم المقدِّمات!

وهذا باطل، وهو مبنيٌّ على أصول الفلسفة، وهو منافٍ لأصول المسلمين وقواعد الدِّين من وجوهٍ كثيرةٍ ليس هذا موضع ذكرها.

وقال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. قال الفرَّاء وجماعة: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} معطوفٌ على الضمير في {أَدْعُو}، يعني: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو.

وهذا قولُ الكلبي، قال: حقٌّ على كلِّ من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكِّر بالقرآن والموعظة.

ويَقْوَى هذا القولُ من وجوهٍ كثيرة.

قال ابن الأنباري: ويجوزُ أن يتمَّ الكلامُ عند قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}، ثمَّ يبتداء: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. فيكونُ الكلامُ على قوله جملتين، أخبَر في أولاهما أنه يدعو إلى الله، وفي الثانية بأنه وأتباعَه على بصيرة.

والقولان متلازمان؛ فلا يكونُ الرجلُ من أتباعه حقًّا حتى يدعو إلى ما دعا إليه. وقولُ الفرَّاء أحسنُ وأقربُ إلى الفصاحة والبلاغة.

وإذا كانت الدعوةُ إلى الله أشرفَ مقامات العبد وأجلَّها وأفضلَها، فهي لا تحصلُ إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حدٍّ يصلُ إليه السَّعي.

ويكفي هذا في شرف العلم، أنَّ صاحبه يحوزُ به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء.


مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 432 – 434 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله