وفي الترمذي وغيره من حديث الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تبارك وتعاليت".
فقوله: "اهدني" سؤال للهداية المطلقة التي لا يتخلف عنها الاهتداء.
وعند القدرية أن الربّ ــ سبحانه وتعالى عن قولهم ــ لا يقدر على هذه الهداية، وإنما يقدر على هداية البيان والدلالة المشتركة بين المؤمنين والكفار.
وقوله: "فيمن هديت" فيه فوائد:
أحدها: أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهتدين وزمرتهم ورفقتهم.
الثانية: توسل إليه بإحسانه وإنعامه، أي: إنك قد هديت من عبادك بشرًا كثيرًا فضلًا منك وإحسانًا، فأحسن إليّ كما أحسنت إليهم، كما يقول الرجل للمَلِك: اجعلني من جملة من أغنيتَه وأعطيتَه وأحسنتَ إليه.
الثالثة: أن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم ولا بأنفسهم، وإنما كان منك، فأنت الذي هديتهم.
وقوله: "وعافني فيمن عافيت" إنما يسأل ربّه العافية المطلقة، وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والإعراض، وفعل ما لا يحبه، وترك ما يحبه، فهذا حقيقة العافية، ولهذا ما سُئل الربّ سبحانه شيئًا أحب إليه من العافية؛ لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشرّ كله وأسبابه.
وقوله: "وتولّني فيمن تولّيت" سؤال للتولّي الكامل، ليس المراد به ما فعله بالكافر من خَلْق القدرة وسلامة الآلة وبيان الطريق، فإن كان هذا هو ولايته للمؤمنين فهو ولي الكفار كما هو ولي المؤمنين، وهو سبحانه يتولّى أولياءه بأمور لا توجد في حق الكفار؛ من توفيقهم وإلهامهم وجعلهم مهتدين مطيعين.
ويدل عليه قوله: "إنه لا يذل من واليت"؛ فإنه منصور عزيز غالب بسبب تولّيك له، وفي هذا تنبيه على أن من حصل له ذلّ في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله له، وإلا فمع الولاية الكاملة ينتفي الذل كلّه، ولو سُلّط عليه بالأذى مَن بأقطارها فهو العزيز غير الذليل.
وقوله: "وقني شرَّ ما قضيت" يتضمن أن الشرّ بقضائه، وأنه هو الذي يقي منه.
وفي "المسند" وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: "يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أَعِنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، وهذه أفعال اختيارية، وقد سأل الله أن يعينه على فعلها.
وهذا الطلب لا معنى له عند القدرية؛ فإن الإعانة عندهم: الإقدار، والتمكين، وإزاحة الأعذار، وسلامة الآلة، وهذا حاصل للسائل وللكفار أيضًا، والإعانة التي سألها أن يجعله ذاكرًا له، شاكرًا، محسنًا لعبادته، كما في حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه المشهور: "رب، أعنِّي ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مِطْواعًا، لك مُخْبِتًا، إليك أوّاهًا منيبًا، رب، تقبل توبتي، واغسل حَوْبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، واهد قلبي، وسدّد لساني، واسلل سَخِيمة صدري" رواه الإمام أحمد في "المسند"، والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وفيه أحد وعشرون دليلًا، فتأملها.
وفي "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد انقضاء صلاته: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ"، وكان يقول ذلك الدعاء عند اعتداله من الركوع، ففي هذا نفي الشريك عنه بكل اعتبار، وإثبات عموم الملك له بكل اعتبار، وإثبات عموم الحمد، وإثبات عموم القدرة، وأن الله سبحانه إذا أعطى عبدًا فلا مانع له، وإذا منعه فلا معطي له.
وعند القدرية أن العبد قد يمنع مَن أعطى الله، ويعطي مَن منعه؛ فإنه يفعل باختياره عطاءً ومنعًا لم يشأه الله، ولم يجعله معطيًا مانعًا، فيتصور أن يكون لمن أعطى مانع، ولمن منع معطٍ.
وفي الصحيح عنه أن رجلًا سأله أن يدله على عمل يدخل به الجنة، فقال: "إنه ليسير على من يسّره الله عليه"، فدلَّ على أن التيسير الصادر من قبله سبحانه يوجب اليسر في العمل، وعدم التيسير يستلزم عدم العمل؛ لأنه ملزومه، والملزوم ينتفي لانتفاء لازمه، والتيسير بمعنى التمكين، وخَلْق العقل، وإزاحة العذر، وسلامة الأعضاء؛ حاصل للمؤمن والكافر، والتيسير المذكور في الحديث أمر آخر وراء ذلك، وبالله التوفيق والتيسير.
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (1/ 363 - 366)