والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث؛ فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها مَنْ جَالَس حامل المسك، كذلك مَنْ جَالَس الصائم انتفع بمجالسته له، وأَمِن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم.
هذا هو الصوم المشروع، لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب.
ففي الحديث الصحيح: "من لم يَدَعْ قول الزُّور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، وفي الحديث: "رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوع والعطش".
فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فكذلك الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتُصيِّره بمنزلة من لم يَصُمْ.
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: ٥٧ - ٥٨)
ولما كان الصبر حبس النفس عن إجابة داعي الهوى، وكان هذا حقيقة الصوم -فإنه حبس النفس عن إجابة داعي شهوة الطعام والشراب والجماع- فُسِّرَ الصبر في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) [البقرة: ٤٥] إنه: الصوم، وسمِّي شهر رمضان: شهر الصبر. وقال بعض السلف: "الصوم نصف الصبر". عدة الصابرين (ص: ٢١٢)
ونُدِبَ إلى الصَّدقة في شهر رمضان؛ فإذا صام وتصدَّق حصلت له المصلحتان معًا، وهذا أكملُ ما يكونُ من الصَّوم، وهو الذي كان يفعلُه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان أجودَ ما يكونُ في رمضان. مفتاح دار السعادة (٢/ ٩٣٩)
ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقول عند فطره: «اللَّهمَّ لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبَّل منَّا، إنَّك أنت السميع العليم». ولا يثبت. وروي عنه أنه كان يقول: «اللَّهمَّ لك صمتُ، وعلى رزقك أفطرتُ». ورُوي عنه أنه كان يقول إذا أفطر: «ذهبَ الظّمأ، وابتلَّتِ العروق، وثبتَ الأجر إن شاء الله». زاد المعاد (٢ / ٦٥ - ٦٦)
قوله سبحانه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: ١٨٥] فيه فائدتان أو أكثر:
أحدهما: أنه لو قال: "رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، لاقتضي اللفظ وقوع الإنزال على جميعِهِ، كما تقدَّم من قول سيبويه، وهذا خلاف المعنى؛ لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منه في ساعة منها، فكيف يتناول جميع الشهر؟، فكان ذكر الشهر الذي هو غير عَلَم موافقا للمعنى، كما تقول: "سِرت في شهر كذا"، فلا يكون السير متناولا لجميع الشهر.
وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات، وفُرض أولا على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعم عن كل يوم مسكينا، ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتّم الصوم، وجُعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام...
الصَّوم جُنَّةٌ من أدواء الرُّوح والقلب والبدن. منافعه تفوت الإحصاء. وله تأثير عجيب في حفظ الصِّحَّة، وإذابة الفضلات، وحبس النَّفس عن تناول مؤذياتها، ولا سيَّما إذا كان باعتدالٍ وقصدٍ، في أفضل أوقاته شرعًا، وحاجة البدن إليه طبعًا.
ثمَّ إنَّ فيه من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها. وفيه خاصِّيَّةٌ تقتضي إيثاره: وهي تفريحُه للقلب عاجلًا وآجلًا. وهو أنفع شيءٍ لأصحاب الأمزجة الباردة الرَّطبة وله تأثيرٌ عظيمٌ في حفظ صحَّتهم.
وهو يدخل في الأدوية الرَّوحانيَّة والطَّبيعيَّة. وإذا راعى الصَّائم فيه ما ينبغي مراعاته طبعًا وشرعًا عظُمَ انتفاعُ قلبه وبدنه به، وحَبَس عنه الموادَّ الغريبة الفاسدة الَّتي هو مستعدٌّ لها، وأزال الموادَّ الرَّديَّة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه، وتحفُّظِ الصَّائم ممَّا ينبغي أن يتحفَّظ منه، وقيامِه بمقصود الصَّوم وسرِّه وعلَّته الغائيَّة. فإنَّ القصد منه أمرٌ آخر وراء ترك الطَّعام والشَّراب، وباعتبار ذلك الأمر اختصَّ من بين الأعمال بأنَّه لله سبحانه.
زاد المعاد في هدي خير العباد (٤/ ٤٩٣ - ٤٩٤)
والأفضل في العُشر الأخير من رمضان: لزومُ المسجد فيه، والخلوةُ والاعتكافُ دون التّصدِّي لمخالطة النّاس والاشتغال بهم، حتّى إنّه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلمَ وإقرائهم القرآنَ عند كثيرٍ من العلماء. مدارج السالكين (١/ ١٣٧)
ومنها: أنه سُئل -يعني ابن تيمية- عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟
فقال: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
وقال ﷺ لأطوع نساء الأمة وأفضلهن وخيرهن: الصديقة بنت الصديق، وقد قالت له: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فما أدعو به؟
قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعفُ عني"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهو سبحانه لمحبته للعفو وللتوبة خلق خلقه على صفات وهيئات وأحوال تقتضي توبتهم إليه واستغفارهم، وعفوه ومغفرته. شفاء العليل (١/ ٣٧٨)
كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتَّى توفَّاه الله عز وجل، وتركه مرَّةً، فقضاه في شوَّالٍ.
واعتكف مرَّةً العشرَ الأوَّل ثمَّ الأوسط ثمَّ العشر الأخير، يلتمس ليلة القدر، ثمَّ تبيَّن له أنَّها في العشر الأخير، فداومَ على اعتكافه حتَّى لحق بربِّه عز وجل.
مقدارها ومن تجب عليه: فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلم، وعلى من يمونه من صغير وكبير، ذكر وأنثى، حر وعبد، صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب. وروي عنه: أو صاعا من دقيق، وروي عنه: نصف صاع من بر.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: وأما ختم الأعمال الصالحة به: فكما خُتم به عمل الصيام بقوله: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) [البقرة: ١٨٥]. مدارج السالكين (٢/ ٣٩٨)
ماذا بعد رمضان